Thursday, January 19, 2012

الإنسان في إعلاناتنا

يا للهول ... إنه العام 2012.
إنه العام الذي يزعم فيه كثير من الناس حول العالم أن هذا الكون ينتهي بحلوله، وأن أوّل يوم فيه هو خاتمة أيام الدنيا.
وإذا كنت لا تزال تقرأ هذه السطور، فأغلب الظن أنك تضحك الآن من سخافة هذا الزعم، لأنك لا تزال حياً تكرر ذات العادات: تستيقظ في الصباح وتستحم وتتناول إفطارك وتخرج إلى عملك وتمضي خلال يومك، وكأن العام 2012 لم يكن.

والآن إليك الخبر اليقين: أنت واهم. لقد تحققت النبوءة ودنيا الأمس قد انتهت فعلاً. هذا الكون الذي نعيشه اليوم هو كون جديد. كل شئ فيه قد تغيّر بأبسط تفاصيله، حتى أننا لا نكاد نميّز شيئاً. وهذه الحقيقة لا تنطبق على شئ بالقدر الذي تنطبق فيه على قطاع الدعاية والإعلان، وعن هذا القطاع أحدثكم.

لقد جاء الوقت الذي شعر فيه كثيرون أن طرقنا التقليدية في ابتكار الإعلانات قد وصلت إلى مرحلة الشيخوخة، وباتت تعاني من أمراض القلب والسكر والضغط وهشاشة العظام. وأصبح الكم الهائل من الإعلانات التي نتلقاها كل يوم، مثل كومة كبيرة من القش: فارغة وهشة وكل عود منها يشبه الآلاف من أعواد القش الأخرى.

إن مضامين الحملات الإعلانية لمعظم الشركات تأتي كردة فعل لما يقوم به المجتمع من تغيرات. مثال: الوكالات الإعلانية تقول: هذه الموضة دارجة إذن فلنصورها في إعلاناتنا، وهذا الشاب لامع إذن فلنظهره في حملاتنا ... والخ. إن الشركات دائماً تابعة، وتنسى أن دور الإعلان كصناعة يجب أن يكون قيادياً، يأخذ بزمام المبادرة ويبتكر هو الموضات والتوجهات الجديدة، التي تتحكم في قناعات المجتمع وتغيّر عاداته. 

هناك عيوب كبيرة يتحتم علينا أن نتخطاها. فيما يلي بعضها: 

أولاً: الإعلان اليوم يبدأ من المنتج وينطلق من مواصفاته وفوائده كهدف. مثال: هذا المنتج طبيعي ينعش، أو قوي ينظف، أو رقيق ينعّم والخ. هذا النوع من الإعلان يتم ابتكاره وتنفيذه في مكتب مكيّف يقبع في الطابق العلوي من بناية رخامية لامعة على الشارع العام. ولا أحد يسأل: كيف يستطيع أن يتفاعل الناس مع إعلان صنعه مجموعة من الأفراد، يتحاورون بينهم بالإنجليزية ويحتجبون في الأبراج العاجية!! 

إن أي حملة تواصلية يجب أن تتم مع الإنسان أينما وكيفما كان. تحت الشمس وفي الهواء. داخل السوق المزدحم أو على رصيف الكورنيش. أمام مواقف سيارات شارع التحلية أو في أحضان حارة شعبية. في مثل هذه الأماكن فقط يتواجد الإنسان الحقيقي، الذي لم نستطع إلى اليوم أن نفهمه ونتقن لغته ونتفاعل معه.

وليست المجالس التي تطلق عليها وكالات التسويق والإعلان اسم "مجموعات البحوث" research sessions أو focus groups هي المخرج من هذا المأزق. إن الشريحة البشرية المدعوة لحضور مثل هذا الاجتماع لا يمكن أن تتصرف على طبيعتها. فهم أفراد غرباء عن بعضهم، يجلسون في مكان غريب، وتوجه لهم أسئلة غريبة من شخص لا يعرفونه! لا يمكن والحال هذه أن يتصرف أي منهم على طبيعته. ولهذا السبب، فهذه المجالس ليست إلا وسيلة مشروعة تبرر قتل كل بادرة للإبداع والتجديد في مجال الدعاية والإعلان. والحقيقة هي أن البسطاء من الناس لا ولن يقولوا للوكالات الإعلانية ما يجب عليهم أن يفعلوه بشكل مباشر. وعندما تواجه أفراد مجموعة البحث هذه بشئ جديد ومبتكر لا يعرفونه، بالطبع سيجدون ألف مبرر للرفض. لذا يجب أن نهدم الأبراج العاجية، وأن نتوقف عن معاملة الناس كفئران تجارب داخل المختبر، وأن نعيش بينهم: نضحك على نكاتهم ونبكي على همومهم ونتفس الهواء الموجود في محيطهم، وبالتالي سنعرف مايجب أن نقدم لهم. إن المسوولية الواقعة على عاتق الوكالات الإعلانية وأصحاب الشركات تحتم عليهم أن يأخذوا بزمام المبادرة في تشكيل المجتمع بالطريقة التي يريدونها، والواقع يثبت أن الناس يتأقلمون مع كل ما يُقدم لهم، بل ويتفاعلون معه.

ثانياً: الإعلان يبتكره مجموعة من الناس تسمي الإنسان "مستهلكاً". ولأنني أومن بتأثير مفرداتنا اللغوية التي نستخدمها على حياتنا، فإنني أعتقد أن طريقة عملنا في مجال الدعاية والإعلان ستتغيّر كلياً إذا غيّرنا بعض مصطلحاتها الموروثة التي نتداولها بشكل دائم. على رأس قائمة هذه المصطلحات، كلمة: مستهلك. إنها كلمة باردة وفجة، اخترعها مختصو الماركتينغ وأكاديميو التسويق، بيخرجوا لنا أجيالاً من الشباب، يعتقدون بشكل واعٍ أو غير واعٍ، أن الإنسان العادي الذي يمشي في الشارع، ما هو إلا "مستهلك". هذا المصطلح العلمي بارد ومهين، لأنه يجرد الفرد من إنسانيته، ويجعله آلة أو بهيمة تمضغ المنتجات اليومية المختلفة وتستهلكها دون أي أبعاد أخرى. إن مصطلح "مستهلك" يجعلنا ننسى أن الإنسان يكوّن روابط نفسية واجتماعية وعاطفية مع كل شئ حوله، وهو بالضرورة يستجيب لكل شئ يعزف على هذه الأوتار الحساسة التي لا يستطيع أن يتجرد منها في لحظة من لحظات حياته.

ثالثاً: الإعلان بمفهومه التقليدي يضع الإنسان موضع المتلقي الجامد، ويجعله مشاهداً أو مستمعاً يستقبل الوعود والعروض. بينما حملات التواصل الناجحة تستلزم المشاركة والتفاعل. إنها تورط تفكيره ومشاعره وتوجهاته وأفعاله في وقت واحد، لأنها تلهمه، تتحداه، تغريه، تحفزه، تحرضه، تسليه، تحزنه، تستفزه. وعندما تقوم حملاتنا الإعلانية بهذا، عندها فقط، يظهر مفعول السحر، ويتغير الإنسان وسلوكه.
إن العلامة التجارية الرائدة تنطلق من الإنسان، وتجعل سبب وجودها مبنياً على قيم هذا الإنسان ذاته، وليس على قيم المنتج. وبالتالي، عندما نطلق حملة تواصلية معه، فإن أبعاد هذه الحملة لن تكون محدودة بقالب محدد في الوسائل التقليدية: لفزيون أو راديو أو مجلة، بل ستوظف كل ما هو مناسب - أيا كانت الوسيلة - طالما أن الفكرة والمضمون يشقان طريقهما الصحيح إلى القلوب.

Monday, December 26, 2011

الويل لمن يضع إعلاناته في الفاصل الإعلاني


ليس هناك أسمج ولا أثقل من الفاصل الإعلاني على شاشة التلفزيون. تلك الفترة الزمنية المستقطعة للإعلانات التجارية هي جزء ضائع ومهدور من حياة ملايين المشاهدين. وأشد لعنة من ذلك، الطريقة المباغتة التي ينحشر فيها هذا الفاصل الإعلاني في جدولك اليومي، مثل زائر سمين وسمج وثقيل ومتطفل وثرثار يطرق بابك على غفلة ويقطع ذروة نشوتك بالمسلسل. يقابل ذلك ردة الفعل الآلية من كل مشاهد، بأن يتم التقاط الريموت كنترول والتحويل لقناة أخرى، أو إخراس الصوت فوراً وانتظار انتهاء الفاصل، طبعاً مع التحلي بفارغ الصبر الذي هو "مفتاح الفرج". وإلى أن يأتي أخونا "فرج"، نكون قد أصبنا بجلطة.  

أنا أعمل في صناعة الإعلان لسنوات طويلة وأدعي أنني أعرف بعض الأسباب. 

الإعلانات التجارية في عالمنا مع الأسف الشديد، اسم على مسمى. هذه الإعلانات فعلاً تجارية. 

إنني على قناعة شخصية بأن صناعة الإعلان في بلادي واقعة تحت غيبوبة دماغية. هذا العطل والعطب بالدرجة الأولى يسيطر على الناحية الإبداعية التي تتعلق بعنصر الجذب وابتكار الأفكار الجديدة. وإن المتتبع لحملاتنا الإعلانية الإقليمية في كافة الوسائل التقليدية، سواء في التلفزيون، أو الراديو، أو الطريق، أو المطبوعات، أو الأسواق ومراكز البيع، أو حتى الإنترنت، يعرف سريعاً هذه الحقيقة. متى كانت آخر مرة رأيت فيها إعلاناً أدهشك؟ أضحكك؟ أبكاك؟ جعلك تعيد حساباتك في أمر ما؟ أو دفعك لتجربة شئ لم تعرفه من قبل؟ ضع إجابتك على هذا السؤال جوار الزخم الهائل من الدعايات التي نتلقاها كل يوم. 

إنني نشأت كطفل في جيل عاصر بدايات تقنين صناعة الإعلان في المملكة، عندما تم لأول مرة تخصيص فترة معينة بعد الأخبار وقبل المسلسل المسائي باسم "الإعلانات التجارية". أتذكر أننا كنا ننتظر فترة الإعلانات بمنتهى الحماس، لأنها كانت جديدة وممتعة بمقاييس ذلك الزمن. كنا نحرص - كباراً وصغاراً - على إنهاء كل مشاغلنا ومتعلقاتنا لحضور الإعلانات من بدايتها، حيث كانت أهميتها بالنسبة لنا لا تقل عن أهمية المسلسل المسائي الذي يليها. فإذا بدأت فترة الإعلانات وأحد أفراد العائلة في الغرفة المجاورة أو المطبخ، كنا نصرخ فيه "جاءت الإعلانات" فيأتي مسرعاً ويأخذ مكانه أمام الشاشة. لا زال معظم أفراد جيلي إلى اليوم يحفظ بعض هذه الإعلانات عن ظهر قلب. 

اليوم، أصبح الفاصل الإعلاني في التلفزيون كابوساً، لأننا - في مجمل حملاتنا الدعائية - نعيد ذات الأفكار وذات القوالب الدرامية الساذجة وذات النكت المفتعلة وذات المبالغات، فقط بوسائل تكنولوجية أكثر تقدماً. رغم أن الفرق شاسع بين الأمس واليوم، في مجتمع شاب ذي طبيعة خاصة، يتغيّر ويتطوّر ويتقدّم على المستوى الفردي بأضعاف السرعة التي تتقدم بها الأفراد في المجتمعات الأخرى. ولكن عندما يصل الأمر للإعلان، فإنه السبات الشتوي العميق والركود الآسن الذي يسيطر على هذا القطاع بصفة عامة، مع بعض الاستثناءات لبعض الأعمال الإعلانية بين حين وآخر.

من الــمُــلام؟ ومن سيكون البطل المخلّص؟ وعلى من تقع المسؤولية؟ على الوكالات الإعلانية ومدى أهليتها للقيام بهذه الصناعة الحيوية والمؤثرة؟ أم على مدراء التسويق وأصحاب الماركات التجارية وطريقة حكمهم وتنفيذهم للحملات الدعائية؟ أم على الثقافة الجمعية للبلد بأكمله؟ وما معنى الإعلان اليوم؟ وما هي وسائله وطرائقه الجديدة بعد انتهاء العقد الأول من الألفية الثالثة؟ وغير ذلك من الأسئلة الكبيرة التي تتطلب نقاشات أكبر. 

لا أدعي أنني أعرف جميع الإجابات. ولكنني بكل تأكيد أعرف أننا إذا أردنا لهذا الوضع أن يتغيّر، يجب أن نحرّك البركة الآسنة، وذلك بضخ حوار جماعي يجري بين كافة الأطراف: الرؤوس المبدعة في الوكالات الإعلانية، مسؤولي الشركات والعلامات التجارية، وأهم من هؤلاء وهولاء: الإنسان البسيط الذي يعيش في هذا البلد ويصنع نسيجه الاجتماعي الخاص. 

في النقاشات القادمة، نتعرض لموضوعات أكثر تحديداً.